top of page

ماتريوشكا الرسائل

  • رسالة
  • Feb 25, 2018
  • 3 min read

Wartime Misery. Self Portrait. 1945.

صديقي العزيز، مساء الخير. أعرف أنك الآن غير مستعدّ لقراءة هذه الرسالة. لا عليك. أفهم هذا، فأنا على الدوام غير مستعد لفعل

شيء. إذا فتحتُ محادثة، أو تلقيتُ اتصالًا، أو اقترب موعد لقاء، أشعر أنني غير مستعد. كنت طوال الوقت أنتظر أن يحين الوقت.

لا أدري ماذا يقول المرء في رسالته الثالثة والعشرين. لكنني حتى لو علمت لكرهت اتباع ذلك. ما رأيك لو أحكي لك اليوم عن الناس؟ عن العالم الذي يغرق كل يوم أكثر! ويبدو قبيحًا في كلّ مرة تنظر فيها إلى الحياة عبرَ عينيّ شخصٍ رأيتَه للمرة الأولى. اسمع، سأكتب لك عن شيءٍ غريب. لا أعرف كيف أصفه بغير هذه الطريقة.

لا يمكنني الحديث عنه إلا كمشهدٍ سينمائيّ. تخيّل معي أنك جالسٌ وحدك إلى طاولة. تسندُ عليها مرفقيك. وتراقبُ الوقت يمرّ من أمامك. المكان الذي تجلسُ فيه بلا سقف. بعيدًا في الساحة، قبل المنعطف مع الشارع الآخر، تسيرُ سيدة عجوز، ظهرها يشبه عرجونًا قديمًا. تحمل خبزًا ملفوفًا بقطعة قماش مطرّزة. في الجهة المقابلة طفلةٌ تبيع العلكة. حولها صبيّان يتبادلان كرةً تزفر ما في بطنها كلّما نفخاها بعد ركلتين أو ثلاث. على الكرسيّ الذي كانت تجلسُ إليه العجوز قبل تحرّكها وصل رجلٌ فارع القامة، شعرهُ شحيحٌ جهة الصدغين. يمسكُ يد ابنته. ويحملُ في يسراه كيسًا ورقيًّا بنيّ اللون. الحمام كان يطير ويحطّ وسط الساحة. أحد الصبيّين ركل الكرة وهي تشهق، فركضت نحو الحمامات. طارت الحمامات كلٌّ صوبَ زاوية، الجميع رفع رأسه إلى السماء. العجوز، بائعة العلكة، الصبيّان، الرجل وابنته، وصاحب المقهى وهو يخبرك أن شايك قد وصل منذ عشر دقائق، وعليك أن تشربه قبل أن يبرد. تتأمل كأسك، تتركه محلّه على الطاولة، ثم تمشي.

Office in a Small City. Edward Hopper. 1953

في الحقيقة لم يحصل شيء أبدًا. هذا ما أريد أن تفكّر فيه. تعرف ما يمرّ عليك وأنت تراقب بهذه الطريقة؟ المشهد ساحرٌ جدا، إلى درجة أنه لا يمكنك أن تقول عنه شيئًا. لا أدري كيف أشرح، لكنه رائع جدا. أصف الحالة أحيانًا بطفلٍ يمسكُ بالونًا، ليلًا. وخلفه أضواء سياراتٍ برتقالية، لمركباتٍ تمرّ أفقيا. البالون يتحرّك، يفلت من يد الصبيّ، والصبي لا يركض خلفه، لأنه حاول من قبل حين أخبره والده أن كتفيه حين يكبر سينبتان أجنحة. سأله: ولماذا الكبار ليس لهم أجنحة؟ قال: لأن آباءهم لم يخبروهم بذلك. يطير البالون بعيدًا.

على كلّ، هذا الشعور الذي أقول، أن تشاهد الحياة في مشهدٍ صغير، مرّني قبل يومين. وأنا أرمي كيس القمامة. وجدت ورقة. ليس عند الحاوية مباشرةً. لا، عند باب الحارس، يبدو أن الرياح حملتها من الشرق، لأنها عالقةٌ في الشجيرة التي أمام بابه من تلك الجهة. حملتُها إلى غرفتي بينما النهار يأفل. إنها رسالة. حسنًا، قرأتها. وأنا من الذين يحبون الرسائل يا صديقي. حتى لو كانت في طلب سداد أجرة الشقة.

الرسالة لا تتجاوز النصف صفحة. ليس فيها سلام. هكذا تبدأ:

"القلب بابٌ مقفل..

صديقي العزيز، أبعثُ إليكَ هذه الكلمات، مودّةً وسلامًا.

حضر الجنازة ثلاثةٌ وثلاثون رجلًا بعد المئة، وأربعة أطفالٍ، وشيخ. بعدها بيومين رأيتُ في المقبرة عشرة. اليوم بعد ثلاثة أشهر، أقفُ وحدي يا صديقي. أسأل لماذا يا الله، لماذا لم تذهب روحي بعد؟ اليوم عرفت، ادّخَرها حتى تدعو لك.

ملاحظة: ستعذرني عن غيابي في اليوم الثاني، كنتُ أنتظر اللحاق بك. لكنه لم يحصل."

في النهاية كتبَ بخطّ صغير:

"أنا غصن، غصنٌ أفلتَتْه يدُ شجرة".

The Tragedy. Pablo Picasso. 1903

للحقيقة، فإنه لا يعنيني أبدًا أن أفكّر وأنا في المقبرة بكمّ الرسائل الذي وُجّه إلى هؤلاء الذين لا يستقبلون. الأمر لا يتعلق بالموت، إنه يتعلق بصناعة قصة. لا أحاول هنا يا صديقي أن أخبرك بشيء عن الحياة، أو البؤس، أو الانكسار. تعرفُ كيف نعرّف كلّ هذه الأشياء؟ بالرسائل، والروايات. عندما لا نتحدّث عنها بشكلٍ مباشر. لا تفكّر بشيء هذا النهار، أرجوك. فكّر فقط كيف أننا نعرف كلّ الأشياء عندما تمرّ بنا مشاهد كهذه، حين يعلقُ الوقت وهو يمرّ، مثلما فعل حين طارت الحمامات، أو وصلَ إلى السماء نفسِها هذا البالون في المشهد الثاني.

أو مثلًا، وأنت تقرأ هذه الرسالة. التي لن تعني الكثير حقيقةً وليس بها لذاتها شيءٌ يدفع إلى التفكير.

صديقك.

الغصن الثاني الذي أفلتته يد الشجرة.


 
 
 

Comments


bottom of page